الأربعاء، 2 مايو 2018

امرأة يجهلها العالم ... لكن الله يعرفها

منقول - بتصرف -
امرأة يجهلها العالم ... لكن الله يعرفها
جاءت جلستي في الطائرة امرأة وحيدة بجوار صف رجال ، فطلبتُ من المضيف تغيير مقعدي فتلكأ فطلبتُ من مسؤول فوج العمرة استبدال مقعدي، ففعل، وبدأت رحلتي بجواره‍ا؛ امرأة قروية أول مرة تركب طائرة، وأول مرة تعتمر، وكل ما يدور حولها مجهول ومرعب، لكن سعادة من نوع خاص تغمرها، سعادة من يحقق حلما مستحيلاً.
عندما بدأوا توزيع الغرف الجماعية اخترت أول غرفة وذهبت مسرعة للمسجد النبوي لأعود آخر اليوم لأجد سريرينا يتعانقان .. أنت مرة اخرى؟، كانت متعبة وشحوبا يعلو وجهها، كانت تتألم في صمت من ضرسها وترفض المسكنات .. لأكتشف أنها مصابة بمرض عضال هاجمها في الصغر وهو في مراحله المتقدمة والأخيرة فوضعونا معا تحسباً لأي طارئ طبي.
بينما كنت أتفحص أوراقه‍ا الطبية كانت تقص علي برضا بالغ حالتها المستعصية وتستفتح وصف كل شكوي بالحمد ، الحمدلله عدت ، الحمدلله أنا زي الفل ، الحمدلله أنا أحسن من غيري كتير . وتقبل كفوفه‍ا امتنانا ورضا .
مازال هناك أناس عن أقدار الله يرضون ؟؟
كانت رفيقتي بائعة فجل ..بارعة الجمال، من قرية تتبع طنطا، تسكن في اللا خريطة، تخرج في سحر كل يوم تعبر الترعة لتخترق الغيطان لتحش منها أعوادا تجمعها في حزمات لتمر مع الفجر على مسجد قرية أخرى فتصلي فيه ثم تفتتح مجلسها في السوق، لتجمع شتاتها ورزقا كريما حلالا وتعود تمسك بآخر شعاع للشمس في قريتها .
رحلة الشقاء تلك امتدت عشرين عاما، تعود لأطفالها في بيت أمها بقطع جبن وحزمة فجل تضعهم بجوار طبق كيفما اتفق، مرة فول مرة بيض أو بامية .
تحكي سعيدة عن طعامها سعادة من أكل سيمون فيميه في بوفيه مفتوح لفندق ٧ أنجم .
أولاد سعدية؛ ثلاثة أولاد وبنتين، كلهم في مراحل تعليم مختلفة، أكبرهم أمين شرطة يستكمل دراسة ليصبح ضابطا .. وأكبرهن كلية آداب ...وزوجك ياسعدية ؟ قالت لا يعمل بسبب اعاقة في قدمه ، وحيد والديه ويرعاه‍ما . ه‍ممت أن أقول شيئا لكن استطرادها إنساني ، كان عند جيراننا بيت متهالك مه‍جور يادوب مطرح ومنافع ،كان زريبة قديمه، قالوا لي اشتريه ، لمي عيالك فيه بدل ما أنت عايشة في بيت أبوك ، قلت لهم مش معايا ثمن قالوا لي التمن وصل ، بس أنا اصريت كل شهر ادفع مبلغ لغاية ما كملت الدين .
دفعت من الفجل ياسعدية ؟؟ قالت ربك عطاياه واسعة انا لي زباين بالاسم بيشتروا مني كل الخضرة كل سوق وارجع مجبورة الخاطر. بنيت البيت بايديا دول وفتحت كفين خشونته‍ما بالغة، عندما رأت نظرات البلاه‍ة علي وجهي قالت حطيت طوبة على طوبة وشوية اسمنت ، كل يوم اعمل الي اقدر عليه والعيال يساعدوني لغاية ماوقفنا الحيطان وعرشنا السطح بجريد
تحكي وكأن عالما آخرا يحتويها: وكتبت البيت باسم الراجل ..انت هبلة يابت ؟؟ ما أنا شهدت العيال وحمايا أن البيت ملكي علشان لو اتجوز عليا أو لو مات . وليه كل دا ماتكتبيه باسمك ؟؟ أجابت بحكمة الدنيا وأصالة الفرسان : محدش يقول له دا بيت سعد ية ويكسروا نفسه.
قصة مرضها قصة ريف مصر ، البله‍ارسيا أكلته‍ا كما أكلت ه‍ي البلهارسيا ، علمتْ ان أيام عمره‍ا باتت معدودة فجمعت القرشين الباقيين للعمرة واستسمحت أولادها فيهم فطلبوا منها أن تكسب ثواب في أبيه‍م وتاخذه معها ، ببساطة كما أن العمرة ب عشرة جنيهات؟؟! ربنا ه‍و الي بيعطي ويرزق يا أم عمر مش الناس، اطلبي منه حيبعت لك ع طول ، انا فضلت احط ٥جنيه ع ١٠ وأحرم نفسي من اللبس والعلاج وامشي بدل ما أركب، وربنا رزقني كل حاجة من وسع .
تقبل سعدية يديها وجه وظهر وتشكر ربها بكلمات ممتنة..
للجنة أبواب ثمانية، يقولون أن بابا منهم اسمه الرضا، أمثال سعدية لعلهم من أهل باب الرضا
تقوم لتصلي نافلة . ارقب تمتماته‍ا في صمت ..تصلي بشغف وقلب حاضر .تتلو الآيات بسجية من يشعر بما يقول لكن لا يحفظ النص . سعدية بتقراي وتكتبي؟ لا يا أم عمر، ح اعمل ايه بالقراءة والكتابة ؟ اولادي كلهم متعلمين باقرا بعنيهم كل حاجة . أفحمني السؤال وألجمتني الإجابة.
كان جمالها ملفتا ، ساورني مايمكن أن تكون عانته وهي مشردة في البلدان وحيدة، ألمحت لها من طرف خفي ففطنت بسرعة قائلة يووو على الرجالة وكلام الناس بس شوفي الشبشب ده ، ع دماغ اي واحد يقل عقله.
تركت حقيبتي مع الفوج وسبقتهم الي مكة وتركت سعدية ونسيت أمرها وإن كان يشغلني مرضها وأنها لن تستطيع الطواف بدون كرسي كما أن الصيام -وكنا وقتها في رمضان- سيره‍قهأ فعزمت أن أسبق واعتمر ثم أتفرغ لعمرته‍ا.
عندما وجدتُ غرفتي ليست مع سعدية فزعت وبحثت عنها أين سعدية؟ مش معاك يادكتورة ؟! لا طبعا أنا سبقتكم لمكة بيومين ..تاهت سعدية ..مصيبة فهي لا تعرف أي شيء والفندق بعيد جدا عن الحرم ..ضاعت سعدية ولمتُ نفسي كما لم ألمها من قبل
حين كنا نطوف وأنا ممسكة بيده‍ا قصت كيف تاهت وكيف وقفت خارج أحد أبواب المسجد تدعو الله أن تعتمر ولو ماتت بعدها، وفجاة وجدت أمامها شابة تبدو مصرية أوقفتها وطلبت منها أن تصحبها لتعتمر ..كانت الشابة طبيبة انهت عمله‍ا بالسعودية وعائدة لمصر وهذا اخر عهدها بالبيت ، قبلت الشابة عمل عمرة ثانية مع سعدية ووه‍بته‍ا لأمها، وأدت كل المناسك في يسر بدون كرسي ثم اتصلت برقم المطوف الموجود ع كارت تعريف سعدية واركبتها سيارة أجرة ودفعت الحساب وكتبت له العنوان ثم تابعت السائق هاتفيا حتى اطمأنت لوصول سعدية . دي ملاك ربنا بعته لي .تقول سعدية.
أنت بس بركة ياسعدية، دعوة واحدة جابت لك المصرية تعمل لك عمرة . قالت: يعني حيجيبني ويسيبني ؟ حبيبي يارب..
كنا عند الخط الاخضر عندما حاولت ان اعلم سعدية دعاء افتتاح الطواف ولكن عندما قلت وعلي ملة ابينا ابراهيم (حنيفا)اسرعت هي بحماسة تقول وعلي ملة ابونا ابو (حنيفة ) ..لا أعرف كم استغرقني الضحك ..لكني أعرف أين توقفت وتحول ضحكي لصمت ورهبة ، عند تلك اللحظة التي صافحت عيناها سقف الكعبة تتلألأ به الأنوار فكبرت وقالت بامتنان حقيقي لله عز وجل : أشكرك ازاي ياحبيبي يارب لو كان ينفع كنت أبوس ايدك ..ثم قبلت يمناها وجها وظهراً عدة مرات، وكلمات الحمد تترى من ثغرها الجميل .
الطريق تفتح لنا حيثما تذهب سعدية كذلك راودتني نفسي وعندما سألتني عايزة أدخل الكعبة ، سالتها مستنكرة حتعملي ايه ف الكعبة ؟ مش بيدخلها إلا الملوك ، قالت في براءة: ما أنا وأنت ملوك وكل الناس دي ملوك الي يرضي عن حياته ملك . أنا عايزة أدخل الكعبة بس أصلي ركعتين شكراً له في صحن داره .حاضر ، أجبت وأنا أطلب منها المسير خلفي متعلقة بحقيبة ظهري وألا تزاحم ولا تنفصل عني
وسرت بطابورنا القصير بمحاذاة السور الرخامي لحجر اسماعيل حتي دخلنا صحن الحجر . سعدية أنت في صحن دار ربنا ، صلي ركعاتك واشكري . ،ياحبيبي يارب ياحبيبي يارسول الله واتفتحت صنابير الدموع عند سعدية
الطريق تفتح حيث سارت سعدية ، راودتي نفسي تارة اخرى ، ، وعندما بلغنا الملتزم رأينا الحجر الاسود ، لم اكن بحاجة للتفكير .. هذه يمين الله في الارض ياسعدية .. قفي بالصف وقبلي يمين مولاك كما تمنيت ..
لله عباد يحتفي بهم و لا يرد رغائبه‍م .
عندما عانقته‍ا في المطار مودعة كانت سعدية ترتدي خمارا وجلبابا أبيضين، أضاءا وجهها فبدت بديعة الجمال ، كحمامة من الحرم فلم أعرف أيهما أشد بياضا رضاها أم ثوبها؟
تذكرت سعدية عندما رأيت احتفاليات يوم المرأة العالمي ..
مثل سعدية يجهلها العالم .. لكن الله يعرفها
أي امرأة أتمني قلبه‍ا، إن لم تكن سعدية ؟
اللهم ارزقنا قلوبا راضية

ليست هناك تعليقات: